السبت، 25 أبريل 2009

لعولمة بين ثقافة المعايير وثقافة التقويض

هاني فحص
هناك درجة من الغموض في مسألة العولمة، تجعل أقواما مستهدفين من أجل تهميشهم وتجديد استلحاقهم، وتجعلنا نحن العرب والمسلمين عموما وبالذات، بسبب ما نقتني من مدخرات حضارية وما نحمل من رسالة هدى، وإن كنا قاصرين ومقصرين في أداء وظيفتنا، مستنفرين أكثر من غيرنا لشعورنا بأن هناك تحديا حضاريا يواجهنا ويختبر كفاءتنا وإرادتنا، على مفصل إن اجتزناه اتصلت وتواصلت حياتنا على نسقها الحضاري الفاعل، وإن لم نجتزة عدنا إلى سياق الأمم والشعوب التي سوف تجعلها العولمة تلتقي على نصاب تخلفي يلغي المسافة أو يقصرها بين الحالات البدائية، أو ما تبقى، وبين الحالات الحضارية التي لم تعرف كيف تصون حضارتها وتواصلها وتصون ذاتها بها.
ذلك الغموض، على هذه الإشكالية المركبة، يجعل كلامنا عن العولمة أكثر من كلام واحد، حتى لدى الواحد منا، فلربما استشعرت الآن املا أو أنست في وفي الأمة إرادة بناءة، إذن لا أرى في العولمة خطرا أو سلبا، وأقرر أن بإمكاني المشاركة فيها بمقدار ما، أو منعها من الإستحواذ علي، ومرة أخرى، غدا، أعود فأحسب شواهد التراجع، واستجمع عناصر المشهد المتراجع في حالنا، فأستشرف مسارات تراجعية تحمل النذر ولا تلوح فيها أي بشارة.. وهكذا نراوح بين الخوف والرجاء، من دون مسوغ أو دليل في الحالتين.
وغموض العولمة الآتية، يأتي من كوننا غائبين، وعيا وإدراكا، وإرهاصا وتوقعا، عن مقدماتها، في الفكر والعمل، وهي إلى ذلك هذه المرة، عولمة تنمو على الأرض من دون مسبقات نظرية، ما يفقدنا الدليل في سعينا، لو سعينا إلى التعامل مع احتمالاتها، في حين أنها محكومة بنظام نظري معرفي خفي، وليست عشوائية في منابعها، تظهر لنا عشوائية لأننا ننظر إليها مباشرة ونحدق، كما نحدق في قرص الشمس فتعشينا ولا نرى، وقد كنا، إلى زمن مضى، قد أشحنا بنظرنا عن أهلتها، لم نستهل حتى صار الهلال بدرا أو أحدب، وحتى كدنا أن ندخل في المحاق الحضاري انتظارا لشهر أو دهر آخر. حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، ولا نلقي بعجزنا أو إرادتنا في العجز على إسلامنا القادر والمؤهل، ينبغي أن نعود إلى تفحص الأفق الذي أطل من خلاله الإسلام علينا، وهل كنا مشروعه الحصري؟ في القرأن، التأسيس المنزل والمحفوظ من الله، والذي يجري مجرى الشمس والقمر، يرد تذكير الرسول (ص) وتذكير المؤمنين بكون الرسول والرسالة رحمة للمؤمنين والمسلمين والعابدين، على نسق الجملة الإسمية أو الفعلية الحرة التي لاتشعر بالحصر والقصر، وعندما يطل القرآن على الأفق الاوسع، الذي يمر بالجماعة ويتجاوزها، تصبح الصيغة حصرية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" "وما ارسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"، إذن فهذه مفاتيح عولمة، أمسك بها المسلمون الأوائل والثواني والثوالث.. وأفلتت من أيدينا، وهي التي حكمت التاريخ الإسلامي وفتحت مغاليق الجغرافيا والتاريخ والأمم والثقافات أمام الثقافة الإسلامية الإيمانية، بكل ما اعترى حركتنا من أخطاء وانكسارات وتحريفات، لم تؤثر على الأصل الصافي والعميق، هذه عولمة، والآن نحن بصدد العولمة، فكيف نعيد وضع عولمة في وجه عولمة ولماذا وعلى أي أساس؟
أما لماذا فلأن العولمة القادمة، قائمة على سلاح عظيم هو العلم، ولكن مرادف للقوة المختزلة في جماعة دون أخرى، في الغرب دون الشرق، في الشمال دون الجنوب، في بعض الشمال دون البعض، وفي بعض الغرب دون البعض، في أمريكا، وهو قائم على الإكراه، وينتهي إلى المحو، إلى محو الثقافة والإقتصاد والإجتماع لينتهي ثانية، بمحو الأفراد، روحا وجسدا، هذه العولمة الواسعة صائرة إلى اختزال البشرية بدل استتباعها، وكما قامت العولمة السابقة، الإمبريالية أو الإشتراكية.. فهي إكراهية، من هنا فهي بالغة إلى مأزقها، لأن نهاية العلم إذا لم يكن مضبوطا بضوابط معيارية، إذا لم يكن العلم داخلا في منظوم ثقافي يتضمنه ولا يقتصر عليه، يصل إلى نهايته، في نهاية العلم، يستيقظ الإنسان على الإيمان... تماما كما يصل الجهل إلى نهايته فيكون الإيمان هو المنقذ وهو المخرج، وبعد الخروج من نهايات العلم الدنيا والقصوى، ويتطابقان في الناتج، يعود العلم إلى سياقه محكوما بالغائية المضبوطة بالمعايير وبالحرية التي لاتهدم ذاتها أو تقوض نصابها وبنيانها.
إذن، إذا لم نقرر الإستمرار في كسلنا واستقالتنا، كان بإمكاننا أن نعيد تشكيل ثقافتنا على سلمها وأولوياتها ومعاييرها... والمسألة مسألة ثقافة، منها يأتي الجمال والحب والعدل، ومنها يأتي الجور الذي يلغي الحب ويشوه جماليات الكون.
هل يعني ذلك أن نغامر الآن، في لحظة الحصار، بثقافة تمامية أي إلغائية؟ قصارانا ان نخوض دفاعا على حدود الذات، لا بمعنى الإنشغال الدائم بمسألة الهوية فهي متحققة بثوابتها، يبقى أن تظل الهوية تعريفا ووعيا، مفتوحة على المستجد، وعلى الآخر، على كل الآخرين، على التعدد، على التقدم، إذن أن نتقدم هو استكمال لهويتنا، هو صيغة الدفاع، تمهيدا لإعادة وضع ثقافانا على السياق العالمي، سياق المشاركة في اطروحة حضارية عالمية يشارك فيها الجميع بنسب متفاوتة، لايلغي الأعلى منها ما هو أدنى، ولا يفتئت الأدنى على الأعلى ولا يقطع معه، بل يتكامل به، وإلى دورة حضارية، نكون قد نجونا وأنجينا معنا أمما وشعوبا وحضارات وثقافات أخرى، ونعود إلى التنافس وإلى تغليب أو تسويد الأصلح من الثقافة، من دون إلغاء، بالحوار الذي يبقى بذاته منهجيا مطابقا لنظام الكون والتكوين.
مرة أخرى لابد من تغليب المعنى، لابد من إعادة الإعتبار إلى الكيف، إلى العدل، لا على حساب الجمال، بل معه، وإلى الكيف من دون زهد أو تزهيد أو تبخيس لكم، لأننا منذ ديكارت حتى الآن، أفلت الزمام منا، وأعطيناه لأهل الكم حتى تراكم وأكل كيفنا كله وكمنا.. العولمة قائمة على ثقافة تلغي المعايير، وثقافتنا معيارية، ومن دون معايير العالم إلى زوال والعولمة إلى إفناء وفناء، ولكن إعادة النظر في المعايير، وعصرنة المعايير هي رافعة ثقافتنا الإسلامية إذا ما أردنا لها ولنا، الحياة بعيدا عن مخاطر العولمة المتوحشة والفارغة.
www.balagh.com

الاثنين، 20 أبريل 2009

التوازن في الاسلام

التوازن.. في الإسلام
محمد عادل
التوازن في الشريعة الإسلامية:
لقد أنزل الشريعة الإسلامية الله، الذي أنزل الميزان إلى أهل الأرض ليقيموا الوزن بالقسط، والذي أنزل كل شيء بقدر. لذلك فإن الشريعة الإسلامية لا بد أن تتمتع بالتوازن الخير الذي يحفظ للفرد والمجتمع مصالحهم. ولنقم بجولة في بعض أحكام الشريعة الإسلامية، متبينين التوازن فيها:
التوازن في العبادات:
أ‌- التوازن في الصلاة:
إن المؤمن بالضرورة يخالط أفراد أسرته في حياته اليومية، كما يخالط الناس، فلا بد أن تؤدي هذه المخالطة إلى وقوعه في صغائر الذنوب، إذ إن الإنسان خطاء بطبيعته. وهذا يخل بتوازنه الروحي. والصلاة هي العبادة المباركة التي تعيد إلى الإنسان توازنه الروحي والنفسي. ففي الحديث الشريف "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا".
ومن المعلوم أن الصلاة تحفظ للنفس توازنها الروحي، وذلك بتطهرها من الفحشاء والمنكر والجزع والهلع والشح: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) [العنكبوت: 45]، (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون) [المعارج: 19-23].
ب‌- التوازن في الصيام:
يسيء الإنسان استخدام معدته- ذلك الجهاز المظلوم- طيلة أحد عشر شهرا كل سنة، مما يرهقه ويسبب له المتاعب ويخل بتوازنه. لكن صيام رمضان إذا تم بالصورة التي رسمها الشرع الشريف، يأتي فيعيد التوازن إلى المعدة، بل إلى الجسم والنفس فيريحهما جميعا.
ج- التوازن في الزكاة:
يتألف المجتمع من طبقتين رئيسيتين، هما الفقراء والأغنياء. وفي العادة يختل التوازن بين هاتين الطبقتين في الكم وفي المواقف النفسية. فعدد الفقراء في المجتمع يفوق عدد الأغنياء، ويكون موقف الأغنياء من الفقراء احتقارهم وازدراءهم، وكثيرا ما يعاملونهم معاملة الإذلال والاضطهاد. بينما يشعر الفقراء تجاه الأغنياء بالبغض والحقد الشديدين.
وهذا كله يجعل المجتمع يفقد توازنه، ويوصله إلى مرحلة الغليان، التي كثيرا ما تؤدي إلى الانفجار. لكن الزكاة التي فرضها الإسلام على الأغنياء، وجعلها حقا كاملا للفقراء، قد أنزلها الله لتعيد إلى المجتمع توازنه.
ومن الأهمية بمكان ملاحظة الأسلوب الذي فرضته الشريعة الإسلامية على الغني حين يقدم للفقير زكاة ماله. فقد ألزمته بإعطاء الفقير الزكاة بروح الأخوة، دون أن يمن عليه أو يحتقره: قال تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) [البقرة: 262-263].
فانظر إلى تكرار النهي عن المن على الفقير حين إعطائه الزكاة وإلى تهويل أمر هذا الذنب. ذلك أن إذلال الفقير بأية طريقة يثير الأحقاد في المجتمع ويعمل على الإخلال بتوازنه.
د- التوازن في الحج:
سبق أن بينت أن الصلاة تعيد إلى المسلم توازنه الروحي، وذلك بتطهيرها لنفسه من الذنوب الصغيرة. غير أن الذنوب الكبيرة تخل بهذا التوازن إخلالا عظيما. وقد شرع الله الحج ليعيد التوازن الروحي للخاطىء المسرف على نفسه.
يقول الحديث النبوي الشريف المتفق عليه: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" [مشكاة المصابيح: 2507]، أي أن الحج يغفر الذنوب جميعها، صغيرها وكبيرها.
والسبب في هذا المقام العظيم للحج هو أنه يجمع بين العبادة المالية والعبادة الجسمية. فالحاج يتحمل نفقات السفر إلى مكة المكرمة، كما يدفع ثمن الأضحية، ويتحمل مشاق السفر والغربة، ويقوم بالطواف والسعي. وبالإضافة إلى ذلك فإن الحاج ينغمر فترة من الزمن في الأنوار الإلهية التي تسطع من الأماكن المقدسة، من مهد الإسلام، الغني ببركات رسول الله (ص) وصحبه الكرام.
هـ- التوازن في الشهادتين:
إن إيمان المسلم بالشهادتين: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، وتكراره لهما بلسانه، يحفظ توازنه النفسي من ناحية هامة. وهي أن توحيد الله حصر لعاطفة المؤمن وارتباطه بإله واحد، يتوكل عليه وحده، ويستمد منه العون وحده. فلو آمن بأكثر من إله واحد، لتشتتت عواطفه بين هذه الآلهة، فيختل توازنه النفسي.
وكذلك إيمانه برسالة محمد (ص) وحدها، يحفظ لنفسه توازنها واستقرارها ويطهرها من الحيرة والتردد في الاختيار بين الشرائع المختلفة.
www.balagh.com

الأحد، 19 أبريل 2009

الرمزية في النقد

الرمزية في الشعر الجاهلي

مقدمة

1- شهدت المذاهب الأدبية والنقدية في الأدب العربي تطورا كان يتماشى مع المنجزات الحضارية العامة والواقع المعرفي والعلمي للمجتمع(1). فقد كان اهتمام علماء الأدب بحفظ الشعر وكلام العرب ، وبهذا نشأت الطبقة الأولى من علماء اللغة ونقاد الأدب ، فغلب عليهم الرواية وتجميع المادة النصية اللغوية والشعرية. وجاءت بعدهم طبقات أخر أخذت تسلك إلى نقد الشعر والنظر في الأدب مسالك فنشأت طبقات من أمثال ابن سلام الجمحي ، وأبي الفرج الأصفهاني والجاحظ أبي عثمان والزوزني وأبي تمام وابن رشيق وسواهم من النقاد ودارسو ا الأدب. حيث اخذ هؤلاء في إرساء أسس نقدية عربية لدراسة الشعر والحكم عليه والموازنة بين شعرائه والمفاضلة بينهم. وكان اهتمامهم بالموازنة بين اللفظ والمعنى وما يتفرع عن ذلك من مباحث كالسرقات الأدبية والمفاضلة بين القولين في الموضوع الواحد والمعنى المبتكر وما سوى ذلك من المباحث. وظل الأدب والنقد الأدبي العربي يترقى على هذا الحال ونشأت مدرس النقد المشرقي والأندلسي. وكانت بين المدارس النقدية مساجلات وملاسنات. وظل الأدب ونقده في صيرورته إلى أن تراجع الأدب والنقد وانكسر عودهما بعد القرن الخامس الهجري واشتد الانكسار بعد القرن الثامن الهجري. حيث فشا اللحن وزالت القرائح واستفحل النظم.

وظل النقد الأدبي العربي على حاله إلى جاءت العصور الحديثة واختلط العرب بالحضارة الغربية ونظروا في أدبها ونقدها ففتحت لهم في النقد مجالات وأبواب فولج بعضهم واستقى منها وعاداها آخرون ووقوا لها بالمرصاد.وظل النقد الغربي بإشكاله ولاسيما في القرن العشرين يجد سبيلا إلى الدراسات الأدبية العربية، واشتد حركة الانتقال بعد ستينيات القرن العشرين. فظهرت المدارس الرمزية والسريالية والبر ناسية والمدرسة المهجرية وبرز النقد التحرري والماركسي والبنيوي والتوليدي ثم التفكيكي والنقد الأسطوري والتأملي وما سوى هذا من المدارس والمسالك النقدية الأدبية.

2- موضوع البحث:

وفي بحثنا الذي بين أيدينا نحاول دراسة مسالة من مسائل النقد الحديث وان كان لها جذورا في النقد القديم ، إلا أن بنيتها الفلسفية ومفاهيمها لم تدر في خلد النقد العربي القديم. وموضوع الدراسة هو الرمزية في الشعر الجاهلي ونحاول في هذا البحث النظر للموضوع من زوايا متعددة فقد أفردنا للموضوع مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.

3- مباحث الموضوع:

الفصل الاول: دراسة في المصطلح والمفهوم بحيث نظرنا إليه من الناحية الفلسفية والناحية الاجتماعية . فقدر الرمز فلاسفة منذ عصر الأنوار والنهضة وكذلك علماء الاجتماع واستقر معنى الرمز في العلمين باعتباره مفهوما قائما بذاته وقابلا للتصور. وأردفنا الدراسة الفلسفية والاجتماعية بدراسة الرمز في النقد الأدبي حيث كان النقد الأدبي يستند في بنية رؤاه على المفاهيم الفلسفية.

وبعد دراسة المصطلح وتحريره اتجهنا إلى دراسة الفصل الثاني

الفصل الثاني : أفردناه لدراسة الرمز في الادب العربي وكيف انتقل المفهوم إلى الدراسات النقدية العربية واهم الدراسات التي عنت بالرمز وأشكاله التطبيقية في الأدب العربي. وبعد هذا انتقلنا الى الفصل الثالث

الفصل الثالث: الذي درسنا فيه نماذج من الرموز فكان تحت عنوان الرمز دراسة تطبيقية على الشعر الجاهلي واخترنا نماذج كالناقة والمرأة وحمار الوحش والضبي وما سوا ذلك من المضامين الرمزية الأكثر تداولا على السنة الشعراء الجاهليين. وبعد الانتهاء أضفنا خاتمة.

خاتمة: وهي خلاصة لما سبق من المباحث والنظر.

أهمية الموضوع: لازال النقد الرمزي بكرا في النقد العربي. ومن هنا تأتي أهمية تقليب الشعر العربي على مضامين نقدية جديدة عسى أن يبوح هذا الشعر بشي جديد.

الرمزية دراسة في المصطلح والمفهوم

الرمز في الدراسات الفلسفية

اهتمت الدراسات الفلسفية بظاهرة الرمز والترميز وقد ظهرت إشارات كثيرة لظاهرة الرمز عند أفلاطون وأرسطو. واهتم الفلاسفة المسلمون بظاهرة الرمز الفلسفي والرمز الصوفي وفي الفلسفة المعاصرة درس الرمز بالمفهوم الجمالي والإيديولوجي كانط وفق نظرية الشيء ذاته والشيء ذاته تعني الذي يتم تصوره أو التفكير فيه. وهو الجوهر الذي لا يتصور بغير العقل.وكان أفلاطون أول من استعمل هذا المفهوم في محاورة تيماوس.فكان يفهم الشيء في ذاته على انه الواقع كما يوجد حقيقة، وكموضوع للمعرفة التأملية.ويتناول كانط الشيء لذاته من جانبين ، من حيث كونه مفهوما سلبيا مشكلا ..والى كونه موضوعا ايجابيا للشيء في ذاته كموضوع للحدس للاحسي. ودرس المفهوم شوبنهاور في الفلسفة الإرادية ونيتشه وسولوفيوف. وتدعو الرمزية الفلسفية إلى المثالية والى الحرية الفردية الفوضوية وتشكلت حول المفاهيم الفلسفية نظريات ومذاهب أدبية حملت اسم الرمزية والفوضوية ولاسيما الأدب الفرنسي والروسي.والرمزية فلسفيا هي الموضوع المتصور والقابل للمثول العقلي لا الظاهري.

الرمز في الدراسات الاجتماعية

اشتغلت الدراسات الاجتماعية على مختلف تخصصاتها بظاهرة الرمز ومعانيه وبنيته وعلاقاته بالفروع العلمية والبناء الفكري وأهم الدراسات الاجتماعية التي تناولت الرمز من زوايا متعددة هي علم الاجتماع العام والثقافي والأنثروبولوجيا والاثنوغرافيا والدراسات الثقافية.

وسنحاول في مايلي إلقاء الضوء على مفاهيم الرمز كما تناولته العلوم الاجتماعية المذكورة سلفا ؛ تتضمن صفة رمز ف الانثروبولوجيا مفهوما محددا ومعنى واسعا. فهو يستخدم في المفهوم المحدود أي المخصص لوصف الأعمال الثقافية التي تتميز بقيمة تعبيرية كالأساطير والشعائر والمعتقدات. وهو يظهر كإعادة تنظيم للتجربة المحسومة وسط منظومة دلالية ولكن هذه الإنشاءات الجماعية لا تحتكر الوظيفة الرمزية. فالاقتصاد والقرابة يتضمنان معنى دلاليا بمقدار الدين والفن عينهما.

أما في المفهوم الواسع، تعود صفة (رمزي) إلى التطور التدريجي لتكوين حالة الثقافة التي تعني إضفاء معنى على الحياة. يختار كل مجتمع معان معينة؛ فيصنف ويجمع ويقارب ويراتب الأمور الحقيقية وفقا لطريقته الخاصة التي تعتبر في الوقت نفسه إطار المفهومية التي يعطيها لذاته وعامل التواصل بين أراده.

نتيجة لذلك تختلف وجهات النظر الأنثروبولوجية اختلافا كبيرا حول الرمزية بحسب تطبيقها على بعض الجوانب الخاصة للنشاط الرمزي مضفية على التحليل تجانسا نسبيا أو متجاوزة الدائرة الرمزية كما هي معرفة ضمن فئات كل ثقافة . فهي تعطي للمعنى بمجمله صفة رمزية في هذه الحالة الأخيرة، لايعتبر النشاط الرمزي مجالا خاصا بالبحث النثروبولوجي. بل صفة للشأن الاجتماعي، فكل ثقافة هي بحد ذاتها نظام رمزي. وتناولت الدراسات الانثروبولوجية الرمز والرمزية من جانبين اثنين:

أولا: مسألة المعنى

إن أوائل العمال الانثروبولوجية التي بذلت جهدا في إبراز الصفات الداخلية للأنظمة الرمزية لم تندرج إلا قليلا في تراث التأمل بالأشكال الرمزية لا سيما تلك التي تطورت في أوربا منذ العصر الرومنطيقي فلقد كان المقصود في معظم الأحوال إثبات وجود خلل عقلاني عام في الفكر البدائي ومقارنة المنطق الفعال للإشارة الغربية بالتباسات ونقائص الرمز الهمجي لقد رفضت الأنثروبولوجيا المعاصرة هذا المفهوم السلبي للرمزية بكونها البعد الذهني المنقوص للعقلانية . وبكونها مفهوما حكرا على الفكر الأولي . لذلك أثبت أعمال غريول GRYAUL ومعاونيه والتي تناولت التراكيب الرمزية لمجتمعات غرب إفريقيا الترابط الداخلي للتصورات والطابع المنظم للمعرفة التي تشكل نظام العالم. ومن جهة أخرى استخدمت تعاليم فرديناند دي سوسير الألسنية الأبحاث الأنثروبولوجية في اتجاه معاكس مما جعل من الرمزية نظام إشارات أكثر مما هي نظام رموز بالمعنى الشائع للكلمة فهي قد لا تختلف عن اللغة إلا بقدر ربطها المدلولات بدلالات تختلف عما يمكن أن ينتظر منها. ورغم أن هذه المدلولات الرمزية تقيم علاقات ذات نمط تماثلي مع محتوى وحيد المعنى ، فهي تعرف بالمركز الذي تحتله في منظومة من الفوارق ، فالرمزية كاللغة ترتبط بعوارض عامة. وتتجلى هذه المقاربة العلائقية للرمزية بوضوح في منهج التحليل الرمزي الذي اقترحه ليفي ستروس كما تجد مسألة معنى الرموز جوابا مختلفا بالكامل إذا ما انتقلنا من تصور واقعي إلى تصور نسبوي لهذه الرموز.

ثانيا: مسألة الوظيفة:

ليس هناك بالتأكيد قطيعة مطلقة بين الأنثروبولوجيين الذين طرحوا مسألة وظيفة الرموز وأولئك الذين تساءلوا، رغم اختلاف المصطلحات،عن دلالتها. فبعضهم قد انتقل في أعماله من مقاربة رمزية إلى أخرى مثل تورنر ويعظهم اكد على ضرورة اخذ فعالية الرمزية بعين الاعتبار ، وبذلوا قصارى جهدهم لإيجاد جواب موحد عن المسألتين. بيد أن تاريخ الانثروبولوجيا يوضح التفريق بين هذين التوجهين البحثيين. فمقابل تيارات البحث التي ركزت على * ما تقول * الرمزية وفضلت بالتالي الأعمال الثقافية البالغة الإتقان فكريا. وهناك التيارات التي تركز على * ما تقوم به * الأنظمة الرمزية، أي ما يفعله بها الناس، وهي تهتم بوجه خاص بالممارسات الرمزية التي تأتي في طليعتها الطقوس. لقد وضع دوركايم أسس هذا التقليد الأخير . كما وضع في الوقت نفسه نظرية الأشكال الرمزية . وتتجه الرمزية الماركسية على تأكيد الوظيفية الرمزية السياسية، في حين تسلب أي أهمية وظيفية عن الرمزيات غير السياسية والتي لا تعدو أن تكون بناءا فوقيا زائفا، كما هو في الفلسفة الماركسية ونظرية جدل الديلكتيك

وبهذا تظل من الناحية الانثروبولوجية تتناوش مسألة الوظيفة الرمزية اتجاهان انثروبولوجيان أما الرمزية في التحليل النفسي فهي طريقة أولية في التفكير تظل قابعة في اللاشعور حيث تخفي معاني الأحلام. ويمكن التوصل إلى معنى الرمز عن طريق وفي علم الاجتماع يذهب التعريف إلى أن الرمز هو: شئ يحتل مكان شيء آخر.ويحل محله ويستدعيه في آن واحد . والرمز يتطلب في بنيته ثلاثة عناصر: الدالSIGNIFIANT ومدلول SIGNIFIE و دلالة SIGNIFICATION وتؤدي الرموز في الدراسات الاجتماعية وظيفتين هما وظيفة الاتصال والثانية وظيفة المشاركة. وهما يتساندان في أوجه الفعل الاجتماعي فرمزية الاتصال تيسر المشاركة وتساعد عليهاـ ورمزية المشاركة تقيم أنماطا عدة من الاتصال أيضا ولاشك في أن كل شكل من أشكال التفاعل والفعل الاجتماعي يتطلب من جهة العناصر الفاعلة إرسال الرسائل واستقبالها. وبمعنى آخر، يستخدم الإنسان وسائل عديدة للتعبير عن حالته النفسية وأفكاره وأهمها: - وسيلة اللغة الانفعالية والعاطفية والإشارات والأصوات ولغة العلوم.وفي مجال الممارسة الرمزية كرس بيار بورديو قسما كبيرا من إعماله لعلم الاجتماع الثقافي ممارسا تحليلا دقيقا للممارسة الرمزية في الحياة الاجتماعية حيث اثبت انه ليست الحياة تقوم على الروابط الاقتصادية في تشكيل البنية الطبقية في المجتمع بل تقوم أيضا على رأس المال الرمزي الثقافي فهو أيضا يحدد المكانة والموقع الطبقي الذي يمتلكه الإنسان فليس إذا رأس المال المادي وحده المحدد للمكانة بل هناك

رأس مال آخر هو رأس المال الرمزي الذي يناظره في التشكيل الاجتماعي .وبهذا أصبح هناك نوع من الرأسمال يرسي الحجر الأساس في عملية التراتب الاجتماعي ن حيث ترتكز بشكل تفاضلي الأوضاع الطبقية بما يضع حدا فاصلا بين الطبقة المسيطرة ومختلف شرائحها، والطبقة المتوسطة والطبقات الشعبية . وكرس بورديو في إثبات وتحليل نمطين من الرأسمال الرمزي وهما رأس المال الرمزي الذي تكرسه الشهادات التي يمتلكها الفرد من مؤسسات المجتمع المعترف بها كالجامعات والتي تمنح حامله سلطة ومكانة بقدر ما تمتلك المؤسسات المانحة للشهادة من مكانة. والرأسمال الثاني هو رأس المال الموروث من الأسرة والمتناقل عبر الأجيال.

الرمز في الدراسات النقدية الأدبية.

أخذ الرمز حيزاً هاماً في الدراسات النقدية المعاصرة. ونكاد لا نجد دراسة حول الشعر لا تتضمن فصلاً أو أكثر عن علاقة الشعر بالرمز.

ومردُّ ذلك يعودُ - بالدرجة الأولى - إلى حصول الرمز على مساحة واسعة في الشعر المعاصر, وإلى حضوره المتميز فيه. وهو يُعَدُّ إحدى أهم سمات (قصيدة الرؤيا) التي غطّت مرحلتي الخمسينيات والستينيات.

ومن أجل تحديد الدلالة الاصطلاحية للرمـز نقول : إن الرمز كلمة, أو عبارة, أو صورة, أو شخصية, أو اسم مكان يحتوي في داخلة على أكثر من دلالة, يربط بينها قطبان رئيسيان. يتمثل الأول بالبعد الظاهر للرمز, وهو ما تتلقاه الحواس منه مباشرة, ويتمثل الثاني بالبعد الباطن أو البعد المراد إيصاله من خلال الرمز. وهناك علاقة وطيدة بين ظاهر الرمز وباطنه .ويمكن للصورة أن تفقد قيمتها إذا حدث تنافر أو عدم انسجام بين القطبين المذكورين باستثناء بعض الحالات الخاصة التي يعمد إليها الشاعر بوعي أو بدون وعي, وتخص طبيعة الرمز المستخدم ونوعه.

وترتبط مستويات استخدام الرمز, والتعامل بـه ومعه, وكذلك قوته على الإيحاء والتمثيل, بتطوّر الوعي الإبداعي, وبقدرته على التجريد.

ويمكن الادعاء أن الرمز -في بدياته الأولى - لم يكن يتعدى الإشارة إلى شئ ( ما ), سواء أعُبـِّرَ عن ذلك بالإيحاء أم بالصوت أم بالحركة... الخ.

وقد انفصل الرمز عن الإشارة - مع احتفاظه بمعناها- منذ بدأ الإنسان ينتقل من التعامل المباشر مع ما يحيط به عن طريق الحواس إلى التعامل بطريقة التجريد والاختزال.

وقد رافق ذلك التطورَ الانفصالُ بين الدالِّ والمدلول على مستوى الهيئة أو الشكل, ويمكن اعتبار اكتشاف الحروف الهجائية شكلاً من أشكال ذلك الانفصال الذي يدلُّ على تطوّر المستوى الذهني للإنسان.

والرمز على أنواع منها: الرمز العلمي, والرمز اللغوي, والرمز الديني, والرمز الفني, والرمز الأسطوري, والرمز الخاص. ومما يجمع بين هذه الأنواع من الرموز أن كل واحد منها يحمل دلالتين ظاهرة وباطنة, وكل رمز يتضّمن الموضوعي والمتصوّر, وكل رمز يحل محلَّ شيء ما, إلى جانب أنه ينطوي على قدرة ثنائية.

ويختلف الرمز في الفن - الشعر بخاصّة - عن غيره من الرموز المذكورة أنه لا يتبدّى إلا ضمن السياق, وهو مرتبط بتجربة الشاعر, وبأبعادها, وبالمرجعيات التي تنبثق منها أو تؤثر فيها، كما أنه متعدّدُ الدلالات. فهو يحمل في داخله - إلى جانب المعنى الإشاري - البعد الاجتماعي والنفسي والفكري والعاطفي وما إلى ذلك.

ويمكن القول بهذا الصدد : إن الرمز في الشعر لا يولد من فراغ, وإنما هو انعكاس لشيء ما. ولعل إحدى مهمات الشاعر لا تنحصر فقط بقوة اكتشاف ذلك الانعكاس وطبيعته, وهي لاشكّ مهمة كبيرة وصعبة, وإنما في الكشف أيضاً عن مجمل الأحاسيس التي خُزِّنت من وراء ذلك. وبقدر ما يحمل هذا الاكتشاف من سمات ذاتية يُسبغُها الشاعر على الرمز المكتشف - وهذا أمر طبيعي -, فإنه - مقابل ذلك, أي الرمز المكتشف - يعكس عرفاً جماعياً لم يُفصَح عنه .

من هنا يمكن القول : إن الشاعر لا يشكّلُ الرمز من العدم, أو بعيداً عن العرف المذكور سابقاً, وإنما هو يكتشفه, ويُضيف إليه. وكلما كان الرمز ممثـِّلاً لما هو (عُرفي) و(متّفق عليه), أي انعكاساً للوعي الراهن أو الممكن أو الاثنين معاً, ازداد تأثيراً, وأصالة .

والرمز - ضمن هذا المضمار - يصبح بفضل الرؤيا المنسجمة للشاعر, وبفضل تجسيده له ضمن السياق (أنموذجاً), والأنموذج يعكس رؤية الفرد ورؤاه, ومعه كذلك المجتمع الذي ينتمي إليه ثقافياً.

وقد يكون انغلاقُ الرمز على ذاته, وخروجه عن العرف العام بالمعنى المذكور سابقاً سبباً في سقوط كثير من الرموز, وعدم فاعليتها.

إننا نواجه - في كثير من الأحيان - رموزاً شعرية, لا نحسُّ بها, ولا تثُير فينا شيئاً, ربما لأنها مُغرِقه في الذاتية, ولأنها - على الأغلب - لا تعكس تلك الحالة التي ذكرناها آنفا.

إن استخدام الرمز الرمز في الشعر أمر حسّاس جداً, وأي خطأ يحدث في ذلك الاستخدام يُعطِّل الرمز, و يُبطل فاعلية الصورة, ومن ثم قوّة النص التأثيرية في المتلقي.

العلاقة بين الرمز والصورة علاقة تفاعل ضمن جدلية التأثر والتأثر. فالصورة هي الرحم الدافئ الذي ينمو فيه الرمز, وتزداد خصوصيته. فهي - من خلال عناصرها المتمثلة بالواقع والفكر والعاطفة واللاشعور والخيال - تُضيف إلى الرمز أشياء جديدة, وتضعه ضمن مناخ خاص يكفلُ وصوله إلى المتلقي, وتأثيره فيه, وهي - من خلال طبيعتها الحسيه - تساعد على تجسيد الرمز, وعلى وضعه ضمن ساحة الحواس, إي إنها تكفل قوّة تأثير الرمز على العقل والإرادة والحواس.

والصورة أيضا تعمّق أبعاد الرمز المعروف, كما أنها مجال لاكتشاف الرموز غير المعروفه. وهي من جهة أخرى السبيل إلى نقل الرمز إلى أنموذج أو مثال جمالي يعبّر عن حالة جمعية في فتره من الفترات.

وأما تأثير الرمز في الصورة فيتجلى في عدة أمور أذكرُ أهمها:

-إن الرمز يركّز الصورة ويضبط استطالاتها, ويوحِّدُ أبعادها. ويدفعها نحو التكثيف والإيحاء.
-
إن الرمز يساعد على تعميق الوعي ضمن الصورة. فالرمز - خارج التشكيل الجمالي للصورة - يحمل بداخله مخزوناً خاصاً يضيفه حين يتحد بها. ومثلما تجعل الصورة الرمز مشخّصاً محسوساً, فإن الرمز يمنحها البعد الدلالي الذي يختزنه.

-والرمز يساهمُ في توسيع المساحتين الزمانيه والمكانية للصورة. فالرمز التاريخي- على سبيل المثال - حين ينضم إلى الصورة ينقل ذهن المتلقي وإحساسه إلى الفترة الزمنية التي أنشئ فيها, وإلى المكان نما فيه وتطوّر. والصورة - مقابل ذلك - تسعى إلى إسقاط ذلك الرمز على موضوع معاصر. وهكذا يكون الرمز سبباً في إغناء الصورة, وفي رَفْدِ أبعادها أبعاداً جديدة, وآفاقاً متنوعة.

- إن وجود الرمز يستحضر أيضاً مفرداتٍ خاصة به, تساعد على تعميق مجراه, وهذه المفردات تُخصِب الصورة, وتُغني مناخاتها.

-ومثلما يستحضر الرمز مفرداتٍ خاصة, فإنه أيضا يستدعي رموزاً من نمطه, تدعم الصورة, وتمـتِّن محتواها, وتقوي فاعليتها.

-ومن الخدمات التي يؤدّيها الرمز للصورة ومن ثمّ للنص تنوّع المناخات التي يفرضها تنوّع الرموز الوافدة إلى الصورة، والغنى في الدلالات وجانب الإيحاء فيها. )

هكذا يتبين لنا مما تقدّم مدى العلاقة الوطيدة بين الرمز بأنواعه كافة والصورة،

ومدى الأهمية الكبيرة في تحقيق الغاية المرجوة من اللقاء بينهما. والشاعر

المبدع هو الذي يستطيع أن يوظّف إمكانات الرمز في خدمة التشكيل الجمالي

للصورة الفنية وكذلك الجانب الدلالي فيها. ولو حَدَثَ غيرُ ذلك يصبح الرمز عبئاً ثقيلاً على الصورة والنص. والرمز لا قيمة له خارج السياق الفني للعمل الإبداعي بعامة.

الرمزية في الدراسات النقدية العربية:

الرمز في الدراسات النقدية العربية القديمة

من غير الجائز علميا إسقاط مفاهيم معرفية أو أدبية أنتجتها حضارة معينة أو نسق معرفي معين على حضارة أخرى أو نسق معرفي آخر إن البنية المفاهيمية تشكل الجهاز المعرفي الذي يتم وفقه إنتاج الفكر أوالتدارس المعرفي ومنها يكون البحث عن الرمزية في النقد القديم ضرب من التجوز أو الانحراف، لأن ظروف المعرفية والشروط الحضارية التي أنشأت المباحث والمفاهيم الرمزية متباينة تمام التباين عن الواقع العربي القديم وعن سياقات النقد الأدبي. فالبحث عن الرمزية كما استقر عليها المفهوم الفلسفي والاجتماعي والأدبي الحديث عبثا إن نعثر عليها في النقد الأدبي القديم. ولكننا رغم هذه المحاذير سنحاول النظر في الرمز بالشعر العربي القديم والنقد الأدبي القديم.ليس كمفهوما فلسفيا وأدبيا وإنما كمفهوم إجرائي ولغوي بحت. والرمز، هو الإشارة من غير لفظ وتكون دالة على معين. هذا التعريف الذي تفصح به المعاجم اللغوية حيث تطابق بين الإشارة والرمز، فيكون الرمز ليس إلا مايعرف باللغة الاشارية. وهذا النوع عرف العرب أنواعا منه وأشهرها ما يعرف بالمعمى وهو نوع من الإلغاز الاشارية. وفي النقد العربي القديم نجد دراسة الرمز بالمفهوم الاشاري عند ابن قتيبة الدنوري وعند الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وكتاب الحيوان فقد وصف بالحيوان ما كانت تلجأ إليه العرب وكثير من الشعوب من الإبانة عن حاجاتهم ومخاطبة بعظهم بعضا من غير لغة منطوقة ولا كلام ملفوظ. وكيف كان يفهم بعظه عن بعض. وكيف تفنن العرب في هذا النوع من الرمز وحذقوه تمام الحذق.

وقد اورد بيتا من الشعر في الرمز والترميز والإبانة عن النفس من غير تلفظ.

قال الشاعر:

نظرت إليها نظرة فتحــيرت دقائق فكري في بديع صفاتها

فأوحى إليها الطرف أني أحبها فاثر الوحـــي في وجناتها

فالوحي بالطرف هورمز اشاري أدركته المرأة سريعا وظهر أثره على وجناتها.

وقد أفاض كثير من النقاد في هذا النمط من الرمز. وعد من الرمز المجاز على اختلاف أشكاله. فهو ملفوظ يقصد به غير ظاهره. وتم دراسة هذا النمط على مستوى اللغة والنقد على حد سواء. ومن الرمز المقارب لما نحن فيه ما أشار إليه الجاحظ في القصيدة العربية من وصف الشاعر للناقة وإفاضة الوصف ليخلص بعدها إلى المحبوب والمقصود بالرحلة. كما ذكر صراع الثور الوحشي والكلاب فتارة يلوي عليها بقرنه فيثخنها جراحا وتارة تنال الكلاب منه نيلا وكلا الصورتين تتكرر في الشعر العربي القديم ليخلص الشاعر منها إلى موقفين نفسيين مختلفين. فكان الثور والكلاب هنا رمزا لحالتين نفسيتين مختلفتين. وهذا الترميز قريب المنال من الرمز الذي نعنيه وان كانت ليس المفهوم عينه بل بعض مقتضياته فقط. أو قل الرمز بمعنى الإشارة اللغوية وليس بالمعنى النقدي كما استقر في الأدب الحديث.

وخلاصة ما ننتهي إليه أن النقد العربي نظر في الرمز اللغوي وكانت له إشارات مبثوثة ضمن المباحث النقدية وليست مفردة بمباحث خاصة وما ذاك إلا لكون لكل امة أو ثقافة أو فترة زمنية ضربا من النقد يتباين عن غيره من الأزمان والحضارات.

الرمز في الدراسات النقدية العربية الحديثة

على خلاف النقد الأدبي القديم اخذ النقد الجديد ، ولا سيما في القرن العشرين بالنظر في التطورات النقدية الغربية ، فشرع الأدباء والنقاد في الاقتباس والنسج على منوال الآداب الغربيةفكان من نظرهم أن اقتبسوا الرمزية مذهبا في الأدب. واقتبس مصطلح الرمز منهجا في النقد. وظهرت دراسات كثيرة تتناول الأدب العربي والشعر القديم خاصة بإعادة النظر والاستنطاق فكان من الدراسات التي توجهت كتابات الشاعر صلاح عبد الصبور والشاعر محمد سعيد ادونيس وكتابات عبد الله الغذامي و مصطفى ناصف وكثير من النقاد العرب. واشتدت الحركة النقدية بالمناهج الحديثة ولاسيما الرمزية والبنيوية والتفكيكية بعد مرحلة الثمانينيات، حيث انتشرت كتابات رولان بارت النقدية وفلسفة بارسونز بالبنيوية وفلسفة جاك دريدا .

وقد كان هذا المنهج من النقد على اختلاف مدارسه- التأويلية واللاسطورية- في تفسير الأدب قديمه وحديثه، واحدا من المناهج والاتجاهات النقدية المتدافعة والتي تضطرب بها حركة التجريب النقدي في الساحة العربية الراهنة.

وبدأ هذا الاتجاه في الظهور في ما يخص دراسة الأدب الجاهلي منذ مطلع القرن العشرين مع حركة متسارعة في فترة الثمانينيات. حيث ظهرت عدة دراسات أكاديمية، ومنها دراسة الدكتور عبد الرحمن نصرت الموسومة ب الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث. وظفر هذا الاتجاه بنقاد آمنوا به وتحمسوا له وتجشموا فيه كل صعب، ذهب الباحث الدكتور عبد الرحمن نصرت في دراسته الموسومة ب الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث إلى القول: والغريب أن ندرس الشعر الجاهلي منفصلا عن نظرة الشعراء إلى الكون ... فنظرة الشعر إلى الكون لاستغنى عنها أبدا في نقد الشعر لان تلك النظرة هي التي تنير الطريق أمام الناقد فلا تجعله يخبط في ليل مظلم.والصورة التي يناقشها الدكتور نصرت في كتابه ليست الصورة الفنية التي اعتاد النقاد مدارستها بل الصورة محل الغرض هي الصورة الذهنية. كما أثبتنا ذلك في المفهوم الفلسفي للرمز. وما يكشف عن طبيعة الصورة عنده مباحث الكتاب الأخرى حيث ضم الباب الثاني من كتابه فصلين تحدث أولهما عن الصورة والرمز الديني وفي الثاني عن الصورة والرمز الوجودي

وفي ما يلي نورد بعض المناقشات والصور التي يعرضها الدكتور في كتابه. ففي الفروض النظرية ينطلق من نظرية يونغ نظرية الأنماط الأربعة وهي النظرية التي وضعها لتفسير السلوك الإنساني وتعتبر ردا على نظرية فرويد في التحليل النفسي.وقوام النظرية ميراث الأسلاف وأوله الدين سواء تجسد في أشكال أسطورية أو لاهوتية أو أي إشكال طقسية. يظل فهم الدين أس البناء الفكري ونظرة الإنسان إلى نفسه ومن حوله هذه النظرة هي التي تحدد وجهته العقلية والنفسية، وتحدد لغته ومشاعره ومعانيه ورموزه، فلغته لا يمكن التعرف على المجاز والحقيقة من خلال فحص القرائن اللغوية بمنهج بلاغي بحت ، فذلك لايكفي ولا يفي بالغرض بل لابد من دراسة المنظومة الفكرية العامة وأولها الرمز والنمط الديني ومن خلال الرمز الديني يمكن آن ندخل إلى القصيدة الجاهلية ونتعرف على طبيعة رموزها ومضامينها وإبعادها. ودون ذلك تظل مغلقة وسرا محنطا لايمكن لأحد أن يخترق سياجه أو يحيط بمغاليقه.

ومن هنا يشتق الدكتور فرضا ثانيا وقوامه إن الإنسان العربي الجاهلي والشاعر أساسا إنسان متدين والشاعر في قمة التدين بل يربط بين الشاعر والكاهن ويعزوا فكرة شيطان الشعر إلى انه ضرب من الكهانة فيكون بهذا الشعراء ليسوا ناطقين بشؤون قبيلتهم ينافحون عنها كما هو وارد في النقد القديم وإنما هم ضرب من الكهان والكهانة يمارسون طقوسهم بصيغ رمزية.

وبهذا الفرض الثاني تنفتح مغاليق الشعر العربي وموقع الشاعر داخل القبيلة ووظيفته الاجتماعية. ولايمكن أن تتكشف هذه الطبيعة بالنظر إلى الشعر وحده باعتباره نسجا لغويا بحتا بل ينبغي الإحاطة التاريخية والانثروبولوجية بالواقع الديني والحضاري والنفسي والفكري للإنسان العربي الجاهلي فداخل هذه الخريطة الكلية يمكن للشعر الجاهلي فقط البوح بما يخفيه وبحقيقته.

ووفق هذا يمكن أن نفسر الرموز اللغوية في الشعر الجاهلي؛ فالشمس والرحلة وحمار الوحش والثور والكلاب والظعائن والوقوف والاستيقاف ليست شخوصا وحقائق إنها رموز. فماذا تعني هذه الرموز؟

تلخص الفقرة التي يوردها الدكتور نصرت في ختام كتابه طبيعة الرموز الجاهلية حيث قال: وإذا صح هذا النظر انفتحت أمامنا مغاليق الحياة الدينية الهذلية في العصر الجاهلي ولاسيما عبادة سواع.

ومن الدراسات التي اهتمت بالتفسير الرمزي للشعر الجاهلي دراسة الدكتور على البطل الموسومة بعنوان الصورة في الشعر العربي وهي دراسة قريبة من سابقتها. وهي تتجه إلى تفسير رمزية الصورة الشعرية في الشعر الجاهلي. وتتأسس على نفس الفرضيات السابقة ولاسيما الرمز الديني بالمفهوم الانثروبولوجي. وإدراك طبيعة الشعر الجاهلي وفقها يتطلب حفريات اركيولوجية في طبقات العقل والمجتمع الجاهلي. هذا الحفر وحده يتيح لنا إدراك رمزية الشعر الجاهلي. ولا نستطرد هنا كثيرا فحسبنا عمق الدراسات وتعددها تلك التي تناولت رمزية الشعر الجاهلي.

وفي اتجاه آخر ينحو منحى الرمزية جاءت كتابات الدكتور مصطفى ناصف الذي اتجه إلى مباحث التأويلية والتفكيكية. فالنص عنده كتوم يحتاج إلى بوح بأسراره وهذا البوح لا يمكن إلا من خلال تأويل النص والتأويل عنده ضرب من استنطاق النص وضرب من المحاورة الداخلية للنص ، هذه المحاورة التي تستفز المتلقي لكي ينظر إلى المجال التداولي والسياقات التداولية التي كتب النص فيها. فالنص عنده ليس بنية مغلقة بل بنية مفتوحة تبوح لكل قارئ بما لا تبوح به للآخر. ومن هنا تكون كلمات الكاتب أو الشاعر لا تبوح بمكنون نفسه بل تتقمصه وتعبر السرديات والنصيات عن ذاتها من خلاله فقط، فلا يعدو أن يكون جسرا تنتقل عبره الكلمات أو بحسب نظرية رولان بارت موت المؤلف. فليس صحيحا أن نبحث وفق هذه النظرية عن ولادة ومكان عيش الشاعر وما سوى ذلك من المباحث التي كانت تعتبر ضرورية في فهم ما يريد أن يقول الشاعر. لم يعد مهما أن نعرف ماذا يريد أن يقول الشاعر. إن النص وحدة مستقلة عن قائله ووحدة مستقلة عن شارحه ومفسره، انه التأويل المستمر وغير المتناه.ولا يخفى اثر المدرسة والفلسفة التفكيكية وتأويلية بول ريكور وغدامير في هذا النوع من القراءة للنصوص الشعرية والنثرية في الأدب العربي القديم، والى جانب هذا النوع من الدراسات هناك دراسات أخرى اتجهت الوجهة النفسية والوجهة الماركسية وكلا منها قراءة للشعر بطريقتها الرمزية الخاصة.

وخلاصة الموضوع: أن الناقد العربي الحديث استقى كثيرا من المناهج والمفاهيم من السياق الفكري الغربي وحاول إعادة قراءة الشعر العربي وفق منظور نقدي جديد. وسنحاول قراءة تطبيقية في الشعر الجاهلي تمس هذه المناهج في الفصل الثالث الذي خصصناه لرمزية الشعر الجاهلي.

الخميس، 9 أبريل 2009

الرؤية

تجريب