هاني فحص
هناك درجة من الغموض في مسألة العولمة، تجعل أقواما مستهدفين من أجل تهميشهم وتجديد استلحاقهم، وتجعلنا نحن العرب والمسلمين عموما وبالذات، بسبب ما نقتني من مدخرات حضارية وما نحمل من رسالة هدى، وإن كنا قاصرين ومقصرين في أداء وظيفتنا، مستنفرين أكثر من غيرنا لشعورنا بأن هناك تحديا حضاريا يواجهنا ويختبر كفاءتنا وإرادتنا، على مفصل إن اجتزناه اتصلت وتواصلت حياتنا على نسقها الحضاري الفاعل، وإن لم نجتزة عدنا إلى سياق الأمم والشعوب التي سوف تجعلها العولمة تلتقي على نصاب تخلفي يلغي المسافة أو يقصرها بين الحالات البدائية، أو ما تبقى، وبين الحالات الحضارية التي لم تعرف كيف تصون حضارتها وتواصلها وتصون ذاتها بها.
ذلك الغموض، على هذه الإشكالية المركبة، يجعل كلامنا عن العولمة أكثر من كلام واحد، حتى لدى الواحد منا، فلربما استشعرت الآن املا أو أنست في وفي الأمة إرادة بناءة، إذن لا أرى في العولمة خطرا أو سلبا، وأقرر أن بإمكاني المشاركة فيها بمقدار ما، أو منعها من الإستحواذ علي، ومرة أخرى، غدا، أعود فأحسب شواهد التراجع، واستجمع عناصر المشهد المتراجع في حالنا، فأستشرف مسارات تراجعية تحمل النذر ولا تلوح فيها أي بشارة.. وهكذا نراوح بين الخوف والرجاء، من دون مسوغ أو دليل في الحالتين.
وغموض العولمة الآتية، يأتي من كوننا غائبين، وعيا وإدراكا، وإرهاصا وتوقعا، عن مقدماتها، في الفكر والعمل، وهي إلى ذلك هذه المرة، عولمة تنمو على الأرض من دون مسبقات نظرية، ما يفقدنا الدليل في سعينا، لو سعينا إلى التعامل مع احتمالاتها، في حين أنها محكومة بنظام نظري معرفي خفي، وليست عشوائية في منابعها، تظهر لنا عشوائية لأننا ننظر إليها مباشرة ونحدق، كما نحدق في قرص الشمس فتعشينا ولا نرى، وقد كنا، إلى زمن مضى، قد أشحنا بنظرنا عن أهلتها، لم نستهل حتى صار الهلال بدرا أو أحدب، وحتى كدنا أن ندخل في المحاق الحضاري انتظارا لشهر أو دهر آخر. حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، ولا نلقي بعجزنا أو إرادتنا في العجز على إسلامنا القادر والمؤهل، ينبغي أن نعود إلى تفحص الأفق الذي أطل من خلاله الإسلام علينا، وهل كنا مشروعه الحصري؟ في القرأن، التأسيس المنزل والمحفوظ من الله، والذي يجري مجرى الشمس والقمر، يرد تذكير الرسول (ص) وتذكير المؤمنين بكون الرسول والرسالة رحمة للمؤمنين والمسلمين والعابدين، على نسق الجملة الإسمية أو الفعلية الحرة التي لاتشعر بالحصر والقصر، وعندما يطل القرآن على الأفق الاوسع، الذي يمر بالجماعة ويتجاوزها، تصبح الصيغة حصرية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" "وما ارسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"، إذن فهذه مفاتيح عولمة، أمسك بها المسلمون الأوائل والثواني والثوالث.. وأفلتت من أيدينا، وهي التي حكمت التاريخ الإسلامي وفتحت مغاليق الجغرافيا والتاريخ والأمم والثقافات أمام الثقافة الإسلامية الإيمانية، بكل ما اعترى حركتنا من أخطاء وانكسارات وتحريفات، لم تؤثر على الأصل الصافي والعميق، هذه عولمة، والآن نحن بصدد العولمة، فكيف نعيد وضع عولمة في وجه عولمة ولماذا وعلى أي أساس؟
أما لماذا فلأن العولمة القادمة، قائمة على سلاح عظيم هو العلم، ولكن مرادف للقوة المختزلة في جماعة دون أخرى، في الغرب دون الشرق، في الشمال دون الجنوب، في بعض الشمال دون البعض، وفي بعض الغرب دون البعض، في أمريكا، وهو قائم على الإكراه، وينتهي إلى المحو، إلى محو الثقافة والإقتصاد والإجتماع لينتهي ثانية، بمحو الأفراد، روحا وجسدا، هذه العولمة الواسعة صائرة إلى اختزال البشرية بدل استتباعها، وكما قامت العولمة السابقة، الإمبريالية أو الإشتراكية.. فهي إكراهية، من هنا فهي بالغة إلى مأزقها، لأن نهاية العلم إذا لم يكن مضبوطا بضوابط معيارية، إذا لم يكن العلم داخلا في منظوم ثقافي يتضمنه ولا يقتصر عليه، يصل إلى نهايته، في نهاية العلم، يستيقظ الإنسان على الإيمان... تماما كما يصل الجهل إلى نهايته فيكون الإيمان هو المنقذ وهو المخرج، وبعد الخروج من نهايات العلم الدنيا والقصوى، ويتطابقان في الناتج، يعود العلم إلى سياقه محكوما بالغائية المضبوطة بالمعايير وبالحرية التي لاتهدم ذاتها أو تقوض نصابها وبنيانها.
إذن، إذا لم نقرر الإستمرار في كسلنا واستقالتنا، كان بإمكاننا أن نعيد تشكيل ثقافتنا على سلمها وأولوياتها ومعاييرها... والمسألة مسألة ثقافة، منها يأتي الجمال والحب والعدل، ومنها يأتي الجور الذي يلغي الحب ويشوه جماليات الكون.
هل يعني ذلك أن نغامر الآن، في لحظة الحصار، بثقافة تمامية أي إلغائية؟ قصارانا ان نخوض دفاعا على حدود الذات، لا بمعنى الإنشغال الدائم بمسألة الهوية فهي متحققة بثوابتها، يبقى أن تظل الهوية تعريفا ووعيا، مفتوحة على المستجد، وعلى الآخر، على كل الآخرين، على التعدد، على التقدم، إذن أن نتقدم هو استكمال لهويتنا، هو صيغة الدفاع، تمهيدا لإعادة وضع ثقافانا على السياق العالمي، سياق المشاركة في اطروحة حضارية عالمية يشارك فيها الجميع بنسب متفاوتة، لايلغي الأعلى منها ما هو أدنى، ولا يفتئت الأدنى على الأعلى ولا يقطع معه، بل يتكامل به، وإلى دورة حضارية، نكون قد نجونا وأنجينا معنا أمما وشعوبا وحضارات وثقافات أخرى، ونعود إلى التنافس وإلى تغليب أو تسويد الأصلح من الثقافة، من دون إلغاء، بالحوار الذي يبقى بذاته منهجيا مطابقا لنظام الكون والتكوين.
مرة أخرى لابد من تغليب المعنى، لابد من إعادة الإعتبار إلى الكيف، إلى العدل، لا على حساب الجمال، بل معه، وإلى الكيف من دون زهد أو تزهيد أو تبخيس لكم، لأننا منذ ديكارت حتى الآن، أفلت الزمام منا، وأعطيناه لأهل الكم حتى تراكم وأكل كيفنا كله وكمنا.. العولمة قائمة على ثقافة تلغي المعايير، وثقافتنا معيارية، ومن دون معايير العالم إلى زوال والعولمة إلى إفناء وفناء، ولكن إعادة النظر في المعايير، وعصرنة المعايير هي رافعة ثقافتنا الإسلامية إذا ما أردنا لها ولنا، الحياة بعيدا عن مخاطر العولمة المتوحشة والفارغة.
www.balagh.com
هناك درجة من الغموض في مسألة العولمة، تجعل أقواما مستهدفين من أجل تهميشهم وتجديد استلحاقهم، وتجعلنا نحن العرب والمسلمين عموما وبالذات، بسبب ما نقتني من مدخرات حضارية وما نحمل من رسالة هدى، وإن كنا قاصرين ومقصرين في أداء وظيفتنا، مستنفرين أكثر من غيرنا لشعورنا بأن هناك تحديا حضاريا يواجهنا ويختبر كفاءتنا وإرادتنا، على مفصل إن اجتزناه اتصلت وتواصلت حياتنا على نسقها الحضاري الفاعل، وإن لم نجتزة عدنا إلى سياق الأمم والشعوب التي سوف تجعلها العولمة تلتقي على نصاب تخلفي يلغي المسافة أو يقصرها بين الحالات البدائية، أو ما تبقى، وبين الحالات الحضارية التي لم تعرف كيف تصون حضارتها وتواصلها وتصون ذاتها بها.
ذلك الغموض، على هذه الإشكالية المركبة، يجعل كلامنا عن العولمة أكثر من كلام واحد، حتى لدى الواحد منا، فلربما استشعرت الآن املا أو أنست في وفي الأمة إرادة بناءة، إذن لا أرى في العولمة خطرا أو سلبا، وأقرر أن بإمكاني المشاركة فيها بمقدار ما، أو منعها من الإستحواذ علي، ومرة أخرى، غدا، أعود فأحسب شواهد التراجع، واستجمع عناصر المشهد المتراجع في حالنا، فأستشرف مسارات تراجعية تحمل النذر ولا تلوح فيها أي بشارة.. وهكذا نراوح بين الخوف والرجاء، من دون مسوغ أو دليل في الحالتين.
وغموض العولمة الآتية، يأتي من كوننا غائبين، وعيا وإدراكا، وإرهاصا وتوقعا، عن مقدماتها، في الفكر والعمل، وهي إلى ذلك هذه المرة، عولمة تنمو على الأرض من دون مسبقات نظرية، ما يفقدنا الدليل في سعينا، لو سعينا إلى التعامل مع احتمالاتها، في حين أنها محكومة بنظام نظري معرفي خفي، وليست عشوائية في منابعها، تظهر لنا عشوائية لأننا ننظر إليها مباشرة ونحدق، كما نحدق في قرص الشمس فتعشينا ولا نرى، وقد كنا، إلى زمن مضى، قد أشحنا بنظرنا عن أهلتها، لم نستهل حتى صار الهلال بدرا أو أحدب، وحتى كدنا أن ندخل في المحاق الحضاري انتظارا لشهر أو دهر آخر. حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، ولا نلقي بعجزنا أو إرادتنا في العجز على إسلامنا القادر والمؤهل، ينبغي أن نعود إلى تفحص الأفق الذي أطل من خلاله الإسلام علينا، وهل كنا مشروعه الحصري؟ في القرأن، التأسيس المنزل والمحفوظ من الله، والذي يجري مجرى الشمس والقمر، يرد تذكير الرسول (ص) وتذكير المؤمنين بكون الرسول والرسالة رحمة للمؤمنين والمسلمين والعابدين، على نسق الجملة الإسمية أو الفعلية الحرة التي لاتشعر بالحصر والقصر، وعندما يطل القرآن على الأفق الاوسع، الذي يمر بالجماعة ويتجاوزها، تصبح الصيغة حصرية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" "وما ارسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"، إذن فهذه مفاتيح عولمة، أمسك بها المسلمون الأوائل والثواني والثوالث.. وأفلتت من أيدينا، وهي التي حكمت التاريخ الإسلامي وفتحت مغاليق الجغرافيا والتاريخ والأمم والثقافات أمام الثقافة الإسلامية الإيمانية، بكل ما اعترى حركتنا من أخطاء وانكسارات وتحريفات، لم تؤثر على الأصل الصافي والعميق، هذه عولمة، والآن نحن بصدد العولمة، فكيف نعيد وضع عولمة في وجه عولمة ولماذا وعلى أي أساس؟
أما لماذا فلأن العولمة القادمة، قائمة على سلاح عظيم هو العلم، ولكن مرادف للقوة المختزلة في جماعة دون أخرى، في الغرب دون الشرق، في الشمال دون الجنوب، في بعض الشمال دون البعض، وفي بعض الغرب دون البعض، في أمريكا، وهو قائم على الإكراه، وينتهي إلى المحو، إلى محو الثقافة والإقتصاد والإجتماع لينتهي ثانية، بمحو الأفراد، روحا وجسدا، هذه العولمة الواسعة صائرة إلى اختزال البشرية بدل استتباعها، وكما قامت العولمة السابقة، الإمبريالية أو الإشتراكية.. فهي إكراهية، من هنا فهي بالغة إلى مأزقها، لأن نهاية العلم إذا لم يكن مضبوطا بضوابط معيارية، إذا لم يكن العلم داخلا في منظوم ثقافي يتضمنه ولا يقتصر عليه، يصل إلى نهايته، في نهاية العلم، يستيقظ الإنسان على الإيمان... تماما كما يصل الجهل إلى نهايته فيكون الإيمان هو المنقذ وهو المخرج، وبعد الخروج من نهايات العلم الدنيا والقصوى، ويتطابقان في الناتج، يعود العلم إلى سياقه محكوما بالغائية المضبوطة بالمعايير وبالحرية التي لاتهدم ذاتها أو تقوض نصابها وبنيانها.
إذن، إذا لم نقرر الإستمرار في كسلنا واستقالتنا، كان بإمكاننا أن نعيد تشكيل ثقافتنا على سلمها وأولوياتها ومعاييرها... والمسألة مسألة ثقافة، منها يأتي الجمال والحب والعدل، ومنها يأتي الجور الذي يلغي الحب ويشوه جماليات الكون.
هل يعني ذلك أن نغامر الآن، في لحظة الحصار، بثقافة تمامية أي إلغائية؟ قصارانا ان نخوض دفاعا على حدود الذات، لا بمعنى الإنشغال الدائم بمسألة الهوية فهي متحققة بثوابتها، يبقى أن تظل الهوية تعريفا ووعيا، مفتوحة على المستجد، وعلى الآخر، على كل الآخرين، على التعدد، على التقدم، إذن أن نتقدم هو استكمال لهويتنا، هو صيغة الدفاع، تمهيدا لإعادة وضع ثقافانا على السياق العالمي، سياق المشاركة في اطروحة حضارية عالمية يشارك فيها الجميع بنسب متفاوتة، لايلغي الأعلى منها ما هو أدنى، ولا يفتئت الأدنى على الأعلى ولا يقطع معه، بل يتكامل به، وإلى دورة حضارية، نكون قد نجونا وأنجينا معنا أمما وشعوبا وحضارات وثقافات أخرى، ونعود إلى التنافس وإلى تغليب أو تسويد الأصلح من الثقافة، من دون إلغاء، بالحوار الذي يبقى بذاته منهجيا مطابقا لنظام الكون والتكوين.
مرة أخرى لابد من تغليب المعنى، لابد من إعادة الإعتبار إلى الكيف، إلى العدل، لا على حساب الجمال، بل معه، وإلى الكيف من دون زهد أو تزهيد أو تبخيس لكم، لأننا منذ ديكارت حتى الآن، أفلت الزمام منا، وأعطيناه لأهل الكم حتى تراكم وأكل كيفنا كله وكمنا.. العولمة قائمة على ثقافة تلغي المعايير، وثقافتنا معيارية، ومن دون معايير العالم إلى زوال والعولمة إلى إفناء وفناء، ولكن إعادة النظر في المعايير، وعصرنة المعايير هي رافعة ثقافتنا الإسلامية إذا ما أردنا لها ولنا، الحياة بعيدا عن مخاطر العولمة المتوحشة والفارغة.
www.balagh.com