هو وانا
...قصتي وقصته الكاملة. الحلقة الأولى.
ولدت في يوم صائف شديد الحر من شهر جوان في ستينيات القرن الماضي؛ حمل
القرن الماضي احلاما عريضة لكثير من الأطفال أمثالي. كان والدي متعلق جدا بحاكم
الدولة وراعيها. يستمع باهتمام بالغ في المذياع الى كلماته. كنت استرق السمع
والنظراليه . وهو مشدوها وكأن مسا من جن قد انتابه حين يتحدث الحاكم؛ وكم رأيته
وهو يضحك بصوت عالي جدا، وهو يكاد يطير فرحا. لم أكن أبالي بحاله هذه وان كنت
أتابع حركاته وأرغب أحيانا أن اكون مثله أفهم كل شيء مثل أبي. كنت أحمل قطعة الخبز
ثم انطلق حافيا لألعب مع أترابي في قريتي. مضت السنين وكبرت قليلا وتوجهت الى
المدرسة بالبلدة القريبة. رأيت طفلا أشقر اللون يرتدي ملابس براقة لم تخطر لي على
بال ولم يسبق لي ان رأيت مثلها. حذاؤه براقا جدا وبشرته صافية وشعره ممشط جداب.
كان لباسي الذي كنت به فرحا مسرورا قد لايقبل زميلي المحترم ان يجعل منه قطعة لمسح
حذائه. ادركت هناك درسي الأول. اني شيء مختلف وزميلي شيء مختلف. كانت امي تقول
دائما الخلق خلق الله وكلنا ابناء تسعة اشهر. ادركت حينها ان هذه الكلمة لا معنى
لها. كان زميلي لطيفا حين جلس بجانبي في الصف الأول بالطاولة الاولى، كنت انظر الى
ملابسه وهي تأخذ بلبي كله.
شرعت المدرسة في تعليمنا الحروف أ ، ب، ت....... ومضت الشهور وكأنها أيام. لم اعد اهتم بلباسي او لباس صاحبي. لأني اكتشفت أني املك قدرة تعلمية كبيرة جدا تتجاوز زميلي بمئات الأميال. صرت ملك الاختبارات، اضحك واقفز كثيرا يوم ارجاع اوراق الامتحانات. كنت ارفع ورقتي واتركها بين ايدي زملائي يتداولونها وكنت اتمنى لو سارت ورقتي في الآفاق كلها، فلم تكن بالنسبة لي ورقة عادية بل كانت أنا مجسدا في ورقة. كانت كأنها روحي تتناولها الأيدي الناعمة. وكان زميلي يدس ورقته في محفظته وكأنه أصابها مس.
مرت
السنون والسنون ونحن ننتقل من طور الى طور، دخلت الجامعة ودخل صاحبي الجامعة. لقد
صارت بدلاته الجميلة سيارات فارهة واناقة زائدة عن اللزوم، كانت حياته مترفة
تتهافت عليه فراشات الجامعة، كنت حينها اتمنى لو حامت حولي فراشة من تلك الفراشات
الجميلات. هكذا كنت احلم فقط ، ولم اكن اجرء على اكثر من هذا.
تخرجت بتفوق وصاحبي كعادته لايعنيه ما يدرس أو لما يدرس. فمستقبله كما يبدو مرسوم ومعلوم سلفا.
تخرجت ثم
عملت وانصرف صاحبي الى شأنه ولم يعد احد منا يرى الآخر .
تصفحت
كعادتي جريدتي وفاجأتني صورته في الصفحة الأولى، وأخذت أحدق اليه واسترجع الأيام
السوالف ثم تابعت قراءتي وقد كتب تحت اسمه: لقد عين سموه أميرا على منطقة ..... لم
اكن قبل هذا اظنني لااعرفه جيدا بل كنت اقسم الأيمان المغلظة أني من اعرف الناس
به. لكن ادركت بعد هذا المنشور أن صاحب الملابس البراقة من السنة الأولى من
المدرسة الابتدائية، مختلف عن ذلك الطفل ذو الأسمال البالية الذي هو أنا. وأدركت
أن عقلي الكبير وعقله الصغير نسبيا لم يجعلا مني كبيرا ولا منه صغيرا. وادركت ان
للحياة منطقها الخاص. والذي لايخضع ولا يبالي بمنطق ارسطو او غير ارسطو. انه منطق
الثروة والسطوة.
استخرجت
كراستي ودونت عليه كلمات فاضت من قلبي كأنها شعر، اما انا فقد كانت عندي شعرا
طالما شعرت بها من اعماقي، اليس الشعر مشتق من الشعور وليس العكس.
فقلت
حينها
:
كنت صغيــــــــــــــــرا * وكـــان صغيـــــرا
كنت صغيــــــــــــــــرا * وكـــان صغيـــــرا
صرت
كبيــــــــــــــــرا * و صار كبيــــــــرا
ثم
صار
أميــــــــــــــــــرا * وما صرت أميـــرا
ولله في
خلقه شؤون
.
الحلقة الثانية
صار
صديقي أميرا وليس كالأمراء، أميرا جذابا مفوها ،كلماته، خطبه ، تعليقاته. يبدو أن
الصحف التي كادت أن تحتجب لرتابة موضوعاتها، بل بشاعتها ستجد فرصة الآن لتنبعث
فيها الحياة. في الصفحات الأولى تحليلات سياسية وتوقعات مستقبلية لسياسته الراشدة،
وكنت أشك أنه لولا حساسية الرأي العام الديني لنشرت جريدة ما أنه سادس الخلفاء
الراشدين لكثرة تكرار عبارة الراشد السياسة الراشدة، بل اعتقد انه رفع مكانا عليا.
فلم يروي لنا التاريخ السياسي للخلفاء الراشدين أن قال لهم أحد الرعية يوما
جلالتكم أو فخامتكم أو قداستكم. بل الذي نعلمه أن قيل لهم أمير المؤمنين؛ بل زادت
جرأة أحدهم فقال يأ أجير المؤمنين. ولست أدري لقلة لباقة أو حصافة سياسية لدى
هؤلاء أم لذكاء ودبلوماسية راقية لدى أصحابنا المحدثين. قرأت الصحف كلها أترقب
أخبار صاحبي، وأقرأ طبعا فيها طبائع المتزلفين وعباد السلطان....... في أحد الأيام
نشرت صحيفة سيارة وكادت أن تخصص العدد كله له، ونصه أصدر الأمير بيانا بغلق جميع
السجون في البلد. كم سرتني الكلمة وكم أرهبتني في الوقت نفسه لأني اعتدت بيان
الأمراء ولأني أعرف صاحبي ورفيق الدراسة. صفق الجميع أو أغلب الشعب أو هكذا صور
ذلك مبدعو الإحصاءات أصحاب بدعة 99.99% . مرت الأيام سراعا وهي حبالى وتذكرت قول
طرفة ابن العبد سيأتيك بالأخبار من لم تبع له بتا ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
وجاءت الأخبار كما قال طرفة. لقد صار بلدي الذي أغلقت سجونه سجنا كبيرا أو كذا
الخلته. ونطقت كعادتي شعرا أو شعورا كما أرغب تسميته. فكتبت كلمات على ورقة
التقطها من الشارع او من أخد ابواب السجن الكبير. فقلت: أصدر
الأميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر بيــانا
فشكرا
للأمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر.
(أغلقوا السجــون في بلدي) .
فشكـــــرا
للأمـيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر .
فقد
أمســــــــى بلدي سجن كبيــــر.
شكــــــــــــــــــــــــــرا
للأمــــــــــــــــــــــــــير
العلم والرعية في بلد الأمير
الحلقة الثالثة
صديقي
الأمير كشف القناع الذي ارتداه لحظة من الزمن، أو القناع الذي نسجته حوله أيادي
المطبلين من خدم السلطان واتباعهم ، وهم كثر، أو الذي صنعته العامة، وأبت الا ان
ترى الأمير الا من خلاله. انه قناع مثل ذلك الذي تصنعه الأفلام حيث لا يمكن ان ترى
الشخص المختفي الا من خلال لبسه لباسا معينا ، لا يمكن ان تراه دون ذلك اللباس
ابدا، انه شخص تراه الرعية كما تريد لا كما هو في حقيقته وطبيعته. انها تأبى أن ترى
الحقائق ، لذا تصرّ على رؤيتها مقنعة مزيفة. انها تخشى الواقع وتخشى صدماته؛ لأننا
جميعا، نلبس أقنعتنا الذاتية، ومن هنا كان من الأحرى أن يكون لأميرنا قناعه الذاتي
.
في بلد
الأمير تعلمنا فنونا كثيرة وعلوما كثيرة. وتعلمت كباقي الرعية. ما قلته يوما في
لحظة انفعال هكذا :
في بلد الأمير
علموني كثيرا
علموني أن أقول نعــم
صاغوها في أذني نغم
علموني في بلد الأمير كثيرا
علموني أن كل ما في بلدي امرأة
وأن أمــــــــــــــي امرأة
وأن زوجـــــــــي امرأة
ثــــــــم قالوا
أمك عـــورة
وزوجك عورة
وأفكاري أيضا عـــورة؟
شكرا للأمير.
دفتر الوطنية في بلد الأمير.
الحلقة الرابعة
أصدر
الأمير المفدى مرسوما تنفيذيا أميريا. مرسوم طبل له الكثير وتهافت على تطبيقه
واستلهامه الكثير، وأنا أعلم لو طلب الأمير تفسيرا لمرسومه لفسرته العامة والخاصة ولأتوا
على شرحه وفي شرحه العجب، لكني أعلم أنهم سيجمعون على عظمته وحكمته والهامه.
ويختلفون في أشياء منه لا لغموض فيه بل يختلفون باختلاف درجات تزلفهم وتملقهم فلكل
منهم ابداعه ومرتبته في التزلف والتقرب من الأمير. ولو ألهموا شعرا لخرجت دواوين
ودواوين. قد تفوق طباعتها ما صنعته الحضارة الاسلامية على مدى قرون لو رصت أوراقه لبلغت الثريا.
لقد كان مرسوم الأمير المفدى ينص في فقراته كلها على
الوطنية وفداء الوطن و ........... وأبدع ما فيه :
المادة 04 : لا يتمتع
بالوطنية الحقة الا من حصل على دفتر الوطنية.
هبّ الجميع للحصول على دفتر الوطنية.
هرولت للحصول على الدفتر.
وقفت في الطابور.
صفعني شرطي الأمير.
امضيت اليوم فلم أحصل على الدفتر.
بت ليلتي خارج الوطنية.
بعد صلاة الفجر وقفت في الطابور.
عساي أفوز بالدفتر.
نظرت يمينا ونظرت شمالا .
جمعت الدينار الأحمر والدولار الأخضر..
دفعت كل ذلك لشرطي الأمير.
تبسم في وجهي وأخيرا منحني الدفتر.
قبلت الدفتر ، نظرت فيه، نظرت في صورة الأمير وقد زينت
الدفتر.
آه .وفرحتاه ها أنا حصلت على الوطنية، ها أنا المواطن
الأكبر.
حملت دفتري، سرت في الطريق أتبختر.
فجأة أوقفني شرطي الأمير.
سألني عن دفتر الوطنية.
تبسمت ثم سلكت يدي في جيبي لأستخرج الدفتر.
بحثت يمينا ........ بحثت شمالا.
فتشت كل مكان فلم أعثر على الدفتر.
اقتادني شرطي الأميــر الى المخفر.
صفع خدي الأيمن ثم الأيسر.
ناداني يا خائن الوطنية أين وضعت الدفتر.
أقسمت يمينا أني أملك دفتر الوطنية.
وأني مؤمن الى الأعماق بالوطنية.
وفجأة وجدت تحت معطفي دينار فوضعته في يد الشرطي.
طأطأ رأسه، غاب ساعة ثم سلمني
الدفتر.
قرأت اسمي ثم انصرفت.
حمدت الله في بلد الأمير. فقد صارت الوطنية بدينار ، صارت الوطنية خطوطا
على الدفتر.
فشكر للأمير الأعز الأغبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق